أي توازنات للعبة السياسية بالجزائر؟

0
1471


Feb 07, 2023

https://www.raialyoum.com/
بشير عمري

هناك شبه إجماع لدى الملاحظين والمراقبين للشأن الجزائري على أنه ليس ثمة أكثر ما يعسِّر من مسألة رصد الحالة السياسية في الجزائر، بكل أبعادها وسيرورتها ووضع في العراء أسباب العتر الذي يلازمها ولا يكاد يفارق مسار تحولاتها، من هذا الشح الكبير في الجهد من قبل نخب التحليل السياسي بشقيه الإعلامي والأكاديمي للولوج إلى عمق الإشكالات وتفكيك عناصرها بغرض الوصول إلى إعادة تركيب الصورة بشكل صحيح، كامل وشامل فيتحقق المشهد في عموم تجلياته، ومن أهم تلك العناصر تظل مسألة التوازنات في شطرنج السياسة وضرورة الحفاظ عليها باعتبارها صمام أمان الأمة وأخر وسائل ضمان السلم والامن السياسيين والاجتماعيين بالبلد.

والتوازنات في السياسة هي مسألة حيوية وفارقة في حياة كل الأمم والشعوب، كونها تُعنى أساسا بضبط ميزان التدافع والصراع بين مختلف القوى السياسية بالمجتمع في إطار شروط متفق عليها ومتداع من الكل لها تنظيميا وقانونيا، لكن هل حقا تحققت التوازنات هاته في الحالة الجزائرية؟ وما طبيعة التوازنات تلك؟

أذكر في سياق محاولة الإجابة عن مثل هاته التساؤلات، أن الرئيس بوتفليقة كان وهو بصدد الدفاع عن مشروع قانون المصالحة الوطنية سنة 2005 أمام رفض قطاعات واسعة من أطراف الازمة السياسية أنداك أو ما تم وسمُها بـ”المأساة الوطنية، قد قال بأن ما شمله مشروعه من نصوص وخطة هو أقصى ما سمحت به “التوازنات السياسية” ويومها تساءلت بجد عن طبيعة تلكم التوازنات وأطرافها.

فعند الأمم ذات العراقة في السياسة وسبل إدارة شأنها، والسريان الطبعي لمنطق المؤسسات بلا وصايات أو ضغوطات، التوازنات تفرزها حركة المجتمع ككل من خلال ما تنتجه عبر تراكم تجربتها من أفكار ونخب ومشاريع تتشكل عبر مدارات الزمنين السياسي والفزيائي، وعادة ما يتم ذلك وفق سياقات تدافعية تنتهي باعترافات متبادلة في الوجود وشرعية التمثيل الاجتماعي في الأفكار والجماعات والجمعيات وكذا الشخصيات.

وعلى هذا الأساس التوازنات إما أن تولد بطريقة شرعية أو بلا شرعية وتغدو بالتالي مصطنعة و”لقيطة” لا تجد لها الاعتراف والعرفان الاجتماعي وتتحول بالتالي من أذاة ضرورية إلى ضرر للسلم والأمن الوطنيين، لأنها لم تتأتى من أعماق وحقيقة المجتمع بل تأتت من فوقية أفقية أبوية في السياسة يرفضها منطق العقل والعقد الاجتماعيين معا.

فالتوازنات بهذا المعني في المشهد السياسي الجزائري غير موجودة على النحو الذي يفرضه الواقع التعددي الذي انتهج بعد أحداث أكتوبر عام 1988 وما نجم عنه من تعديل دستوري سنة من بعد، أي في 1989 على علات ومصائب هذا الواقع التعددي، فكل المؤسسات والهيئات والجماعات النقابية والحزبية هي رهن إرادة وإدارة السلطة وبالتالي تظل لعبة التوازنات مقفلة على الجماعات المشكلة لهاته لسلطة دون سواها، ومشكل الجزائر السياسي هو كامن أساسا في إشكالية الحكم مبنى ومعنى، لأنه مذ استقلت البلاد وهي تبحث عن الشرعية له في كامل أبعادها.

وهذا ما ينزع عن العملية السياسية في الجزائر مصداقيتها وشرعيتها وجدواها طالما أن “اللعبة مغلقة” وبالتالي التوازنات مختزلة في نسق الصراعات الفوقية، وداخل مجموعات السلطة من غير أثر للمجتمع ولا يد له فيها، ما يفضي إلى القول بأن الديمقراطية كأسلوب إدارة السياسة والاجتماع لا تمتد في سياق انبساطها إلى المجتمع وأنها باقية في حدود المأمول غير المعلوم بزمان أو بإمكان للتحقق.

لكن ما هي مبررات السلطة في التأكيد على أن هناك توازنات سياسية يتوجب الحفاظ عليها حفاظا على السلم والأمن الاجتماعيين في البلد، مثلما صاح به بوتفليقة في المثل الذي أشرنا إليه سابقا؟

الحقيقة هي أن معضلة غياب المشروع السياسي الجديد الذي تقتضيه مرحلة التطور النوعي للمجتمع الجزائري على شتى الصعد، بالنسبة للنخب الحاكمة جعلها تلقي بصراعاتها وتناقضاتها الداخلية على المجتمع كي تأخذ (التناقضات والصراعات) الطابع، الصفة والشرعية المجتمعية، وتؤكد من خلالها بأن التوازنات هي من افراز حركة المجتمع ككل في تمشيه السياسي والاجتماعي، غير أن حقيقة الواقع تفند ذلك بالمرة، إذ أن التوازنات لا يمكن الحديث عنها كظاهر صحية وطبيعية إلا أذا أفرزها وجود مجتمع سياسي حقيقي يتدافع ويتصارع بحرية ودون اصطناع، وهذا ما لا يتحقق في الواقع السياسي الجزائر حاليا.

من هنا صارت تلكم النخب تعمل على خلق التناقضات داخل المجتمع، أو إثارة التنوعات والاختلافات المطلبية الأيديولوجية والسياسية الثاوية في عمق الحقيقة الوطنية، واللعب عليها باعتبارها ظواهر مهددة للنسيج المجتمعي وبها تتم إدانة السياسة واعتبارها عكس حقيقتها النشاط الأقل نبلا وقدرة على تحقيق الغايات والأهداف الوطنية المشتركة، وعبرها تتم إدانة الفاعل أو الناشط السياسي بحسبانه انتهازي، وصولي، جهوي أو دموي حتى، وهو بالتالي ومشروع مسئول فاسد ينبغي قطع الطريق أمامه، ولعل هذا ما يفسر سر العزوف الشعبي العام ليس على العملية الانتخابية فحسب، بل وعلى السياسة ككل وهذا مذ تم توقيف المسارات الثلاثة، الانتخابي، الديمقراطي والتعددي الحقيقي في جانفي 1992.

إذن نخلص في الأخير إلى أنه بغياب مجتمع سياسي حقيقي، قوي وقويم، تظل التوازنات السياسية لعبة فوقية غير عاكسة بالمرة للحقيقة المجتمعية، وهو ما يؤكد في الأول والآخر أن المشروع التعددي الحقيقي لا يزال حلما مع وقف التنفيذ، وأن الأحادية مستمرة في البلد يُعملها عقل السلطة في مواجهة سلطة العقل التي تتسع باتساع رقعة الوعي الاجتماعي والسياسي بالجزائر.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici