تطور فكرة “المغالبة” من الحربية إلى “الحرية” في الجزائر

0
1806


Feb 14, 2023

https://www.raialyoum.com/
بشير عمري

أشرنا في غير ما موضع بأن العجز المفضوح لنخب التعددية في تحقيق حلم التغيير السياسي عبر انجاز انتقال ديمقراطي حقيقي ناتج أساسا عن عدم قدرتها على افراز فكر سياسي وطني بديل، وذلك بسبب غلبة منطق الغنيمة على غنيمة المنطق في اللعبة السياسية ما رسخ مفهوم “البوليتيك” البنابي (مالك بن بني) للسياسة الشعبوية القائمة على الدجل وحسابات الجدل الأيديولوجي والمصلحي الانتخابي الآني، من هنا توجب على العقل السياسي الوطني أن ينطرح بذاته ولذاته للتشريح ومعاودة النظر، أملا في أن يستفيق ويستقيم الفاعل السياسي المستقبلي في مسار بحثه عن الحلقة الضائعة في جدلية سلطة المجتمع السيادية الغائبة ومجتمع السلطة السياسية الغالبة منذ أزمة المجلس الوطني للثور في الصائفة العاصفة لسنة 1262 والذي انعقد في طرابلس.

من جملة مشاريع الإخفاق السياسي في التأسيس لتعددية مثلى، كان خط المغالبة الصادم والمصادم لمنطق المرحلة والحاجة المجتمعية لقوة الدفع التغييري العقلاني بعد التخلي (الشكلي) عن الأحادية، مشروع تمثله ومثله الفصيل الاسلاموي الأول بقيادة الجبهة الإسلامية للانقاذ ورام من خلاله الجمع بين الطلب والتغلب في سبيل نزع الحكم ومؤسساته من منظومة لا ترى لها أساسا وجوديا ولا جدوى إلا بالحكم والتحكم في مجتمع يقر التاريخ باستعصاء حكمه، لثقافته وتقاليده في التمرد على إرادة الاستحواذ عليه والاستفراد بسيادته وهذا منذ فجر التاريخ.

السؤال الجدير هنا بالالحاح، هو كيف برز هذا التيار، وما مبرراته التاريخية والأيديولوجية، وإلى انتهى في تطور خطابه؟

الجواب يعيدنا حتما إلى فتوة عمر تيار الإسلام السياسي وبداية تشكل تشكيلاته واتجاهاته، التي ستتأثر بمعطيات الخارج أكثر من الداخل وهي ترسم أفاق حضورها في مسارح الاجتماع والسياسة، وهذا ليس لفقر في الرصيد الوطني (السياسي) للإسلام باعتبار أن لهذا التيار سلف (ليس السلفية) يشرعن حضوره التاريخي ممثلا في جمعية العلماء، وإنما هو عجز عن استيعاب اللحظة الاندماجية الفارقة في الوطنية ببعدها القطري والإسلام ببعده الأممي الكوني، ولعل ذلك ما يفسر غربة مالك بن نبي في قومه وهشاشة حضور ميراث جمعية العلماء المسلمين في الخطاب الحركي الاسلاموي إلا ما خلى في الاحتفائية أو في معرض شرعنة الوجود لهذا التيار في الحظيرة الوطنية.

فلقد تقلبت الرؤى والأفكار في هذا التيار بين متبع لمشاريع أممية ولدت في بيئات أخرى، ومحاك لتاريخ الإسلام باعتباره أسبق وأصدق تجربة من تاريخ الوطنية وبذلك تمركزت لدى هذا الأخير، الجهادية القتالية في مشروع التمكين لـ”المشروع” ومساند التبرير كانت لا تتوقف سيولها عن الجريان من خلال معاودة القاء السير الأولى وذكريات الفتوحات والثورات التقويمية على الحكام بالسيف، فعمي أو تعامى هذا العقل عن التاريخ حاسبا بأنه سيعيد نفسه على شاكلته الأولى، ومجرد التفاتة بسيطة لما كان يكتبه زعيم هذا الفصيل علي بن حاج إبان عنفوان الجبهة على صفحات المنقذ (لسان حال الحزب” يكشف حقيقة ما أسلفنا في سرده ووصفه.

الرجل جمع المطالبة والمغالبة كورقتي ضغط سياسي ليس لتحرير المجتمع من الاستبداد وإنما كي يرث الاستبداد عن منظومته الأولى، لأن مفهوم عدم شرعية الحكم لديه لم يكن هو ذات مفهوم شركاء القضية الوطنية الأخرين، كآيت أحمد، على محساس، عبد الرحمن عجريد، بن يوسف بن خدة وغيرهم، ففهم على بن حاج وقناعته وقتها، كانت متوقفة عند شرعية حكم الإسلام وعدمها لكل الأفكار الأخرى التي كانت يعتبرها غير معبرة عن “المجتمع الجزائري المسلم” وبهذا فلا حرية إلا الحرية “الاسلاموية ولا سياسة ولا اقتصاد ولا رؤية إلا التي نطق بها مشروع حزبه وتياره داخل الفصيل الاسلاموي.

طبعا واكب وشجع تبني هكذا فشل خطير في استيعاب القضية “الوطنية” وتمثلها كمعطى تاريخي في السياسة عن هذا التيار، التحولات الدولية التي تسارعت في العالم وقتها أي نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات بسقوط جدار برلين واندحار الشيوعية وانتصار المجاهدين الافغان المدعومين من الغرب لتكسير السوفيات ومعسكرهم والقراءات اللاتاريخية الغيبية الغبية التي كانت تعطى لتلك الحرب في خطاب الاسلامويين الدعوي، السياسي والاعلامي، ما غذى خرافة النصر الإلهي في نفوس أبناء هذا التيار وزادوا في امتهان التاريخ والتهاون في فهمه، حتى طغى في حين من صراعهم مع غيرهم من الخصوم في معارك الانتخاب منطق الدجل والكرامات برؤية اسم الجلالة بارزا بازغا في التجمعات الشعبية باعتبارها إشارة لنصر وشيك !!

لكن بعد أزيد من عقد بالسجن (1991- 2003) خرج منه على بن حاج بغير الفكر الذي دخل، اتضح أن هذا التيار على الأقل من خلال تجربة رائده ومؤسس جناحه داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد استوعب جديا مثالب مشروعه المناطح للتاريخ ولمنطق الزمن، فالمغالبة اليوم عبر الخطاب “البنحاجي” صارت تنزع للسياسة أكثر منها للقتالية وللحظيرة الوطنية دون حصرها في التيار، وللحرية المدنية للجميع بما فيها من نطق بالكفر وليس السياسي فحسب بل الكفر الاعتقادي حتى، وهو ما دلت عليه مواقف عدة للرجل منها دعمه لحرية الكاتب الفرنكفوني كمال دواد في التعبير حتى لو تهجم على الإسلام واللغة العربية، وآخرها دفاعه عن الناشطة السياسية أميرة برواي التي هربت أو هُربت إلى المنفى بفرنسا على الرغم من عدائها لقيم المجتمع الجزائر وأبرزها الإسلام، كما يرى الكثيرون.

لكن لا نكاد نرى اشتغالا عقلانيا أكاديميا كان أم انطباعيا من النخب التي يفترض أنها منشغلة بمسألة قلق العقل الوطني، وهذا ببساطة لأن الجزائر افتقرت لهذه النخب وهو ما يجعل من ثروة تجارب العمل السياسي تذهب تبديدا وتسيل تبذيرا في صحارى اللا وعي السياسي الوطني، فكيف والحال هذه يُرتجى التأسيس لأفاق التغيير وركام التجربة الوطنية لمختلف التيارات تذهب هكذا هدرا؟ لتبقى السياسة بالتالي في حيز لعبة دجلها الأولى بمعنى تظلها “بوليتيك” خالية من كل أس تاريخي جدي وجاد.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici