سجناء الجنّة الثقافية الفرنسية

0
1532

23 – أكتوبر – 2023

 https://www.alquds.co.uk/

توفيق رباحي

تعلمتُ في الحياة ألَّا أحكم على الناس. أفضِّل دائما أن أضع نفسي مكان الذين لا يعجبني ما يصدر منهم، في الشأن العام والخاص، لأتخيّل هل كنت سأتصرف مثلهم أو أسوأ.
لهذا عندما قرأت في يوم واحد (الجمعة 13 أكتوبر الجاري) بمجلة «لوبوان» مقالَي الروائي المغربي الطاهر بن جلون (جائزة الغونكور 1987) والجزائري كمال داود، ومقابلة مع الكاتب الجزائري بوعلام صنصال في صحيفة «لوفيغارو» عن الحرب الإسرائيلية على غزة، سألت نفسي: ما الذي يجعل واحدًا «منّا» بكل هذا الاندفاع والاستسلام الأعمى للقراءة الإسرائيلية الغربية للأحداث؟ ماذا يجعل بن جلون، وهو مَن هو، وداود الذي بلغ أعلى درجات المجد الأدبي في فرنسا في زمن قياسي، ويُفترض أنهما ليسا في حاجة لشيء أو لأحد، يتخذان مواقف أجدها مسيئة لمكانتهما وللإنسانية (لأن الإنسانية تتطلب أيضا البكاء على الآلاف من أطفال غزة ونسائها، مثلما تطلبت من الثلاثة البكاء على أطفال المستوطنات والبلدات الإسرائيلية. وتتطلب انتقاد الجيش الإسرائيلي وإطلاق الأوصاف الوحشية عليه، مثلما انتقد الثلاثة حماس وأطلقوا عليها أبشع الأوصاف).
مما قال بن جلون في مقاله أن القضية «الفلسطينية ماتت صباح السبت 7 أكتوبر» وأن ما فعلته حماس «لا تفعله وحوش» وأن الحروب تكون «بين جنود وجنود وليس على النساء والأطفال».
ومما قال داود أن هجوم حماس «هزيمة للقضية الفلسطينية» التي «تطلبنت (من طالبان) وفقدت إنسانيتها» وأن الهجوم تأكيد لعقيدة «معادية لليهود عمرها أكثر من ألف سنة. ما فعلته حماس هو أفظع هزائمنا».
المقالان مُعبّآن بمثل هذا الكلام الموغل في «الاعتذارية» والعمى التاريخي وبتر الحقائق، لكأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بدأ يوم السبت 7 تشرين الأول (أكتوبر).
ولأنني أرفض القفز إلى التطرف اللفظي من قبيل «عملاء لفرنسا» و«يعانون من عقدة الأجنبي».. إلخ، اتصلت بصديقين أثق في اطلاعهما الواسع وقدرتهما على التحليل. سألتهما السؤال نفسه: ماذا يجعل بن جلون وداود بمثل هذه المواقف؟ فسمعت منهما كلاما متشابها يختلف قليلا في التعبير ويتفق كثيرا في المضمون.
أحد الاثنين يعيش في فرنسا منذ ثلاثين سنة. عمل في الإعلام ولا يزال، نشر روايات وله صلات مع أوساط الأدب والترجمة الفرنسية.
اختار صديقي (الذي يصرُّ على مناداتي بأستاذه رغم صداقتنا المستمرة منذ 30 سنة) أن يبدأ نقاشنا الطويل بالقول: «حدثت معي قصة شخصية في نهاية التسعينيات. قلت في لقاء أدبي (وأنا روائي آنذاك) أمام صحافيين فرنسيين بباريس: حدث ظلم كبير بحق جزائريين أبرياء ليسوا إرهابيين، لكنهم اليوم في مراكز اعتقال بالصحراء. أرجو أن نميّز بين مَن يصلي ومن يمارس الإرهاب. كنت أفكر آنذاك في جاري وصديق طفولتي (س) الذي لم يكن من جبهة الإنقاذ وسجنوه ثم خرج بريئا بعد مظلمة سرقت خمس سنوات من عمره. صحافية معروفة من مجلة «نوفيل أوبسرفاتور» قالت لي: كأنك تدافع عنهم. قلت: أنا أعرف المساجد ومن فيها. من يدخل المسجد ليس بالضرورة إرهابيا. أجابت أمام الملأ: يبدو أنهم تركوا أثرهم عليك».
للعلم، صديقي ليس متدينا بالمعنى المبالغ فيه ولا أعرف أنه يرتاد المساجد. لكن هذه الواقعة تدل على خطر في التركيبة الذهنية للمهيمنين على الوسط الثقافي والأدبي في فرنسا.

القمع الفكري المتجذر في فرنسا ترعاه آلة متناسقة: إذا رفضتك دار نشر كبرى ستلفظك بالضرورة الصحف الكبرى. هذه المؤسسات تحتكر صناعة الأمجاد الفكرية ولا تعترف بمن صنع نفسه خارجها

مضى صديقي قائلا: «أقول لأستاذي توفيق رباحي أن فرنسا بلد الفكر الجبار. من يفكر ويكتب قد يدخل عالما مغلقا له رموزه وقواعده وجبابرته. هم يرسمون لك خارطة الطريق الفكرية. إذا دخلت عالمهم، يحلو لك الجلوس، لكن إذا فكرت بعكس ما يفكرون، تُعرِّض نفسك لعنصرية فكرية تذكِّرك بأنك لست من أحفاد فولتير ودنيس ديدرو وغيرهما من صناع عصر الأنوار. إذا تبنَّاك عرّاب من العرّابين، ستصبح له عبدا فكريا يقتلك إذا تمردت على منظومته الفكرية. القتل المعنوي، طبعا».
المجد الأدبي والفكري، بالذات إذا كنت مُلوَّن السحنة مثل بن جلون وداود، له ثمن باهظ حتى لو تعلّق الأمر بحرب بعيدة جغرافيا ليست فرنسا طرفا مباشرا فيها. هذا الثمن لا تدفعه مرة واحدة وترتاح، بل يُطلب منك كلما دعت الضرورة وأرادوا منك الدفع.
يستطيع إريك كانتونا أن ينتقد إسرائيل مثلما فعل كريم بن زيمة، لكن الأول واصل حياته العادية بينما يتعرض بن زيمة لمحاولات اغتيال معنوي وأخلاقي لا أعرف كيف سيخرج منها.
يضيف صديقي: «أنت هنا تحدثني عن بن جلون صاحب جائزة الغونكور للآداب، وعن داود الذي اقترب من نيلها، وهو صديق الرئيس إيمانويل ماكرون. أنت لا تصل إلى هذا المستوى ثم تقول: لا يا صديقي الرئيس، أنظر إلى هذه الرقعة الصغيرة التي اسمها غزة. فيها بشر مثلك ومثلي يتعرضون للإبادة. التعاطف مع سكان غزة انتحار. بكل بساطة».
أستنتجُ من هذا النقاش أن عهد الأدباء الكبار أمثال فيكتور هوغو الذي واجه القمع السياسي بقلمه، وجان بول سارتر الذي رفض جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر، انتهى. داود وصنصال وبن جلون وغيرهم ممن نالوا المجد دخلوا الجنة الفكرية الفرنسية وهم اليوم حراس يقفون على عتبتها لحمايتها من الدخلاء المُحمّلين بأفكار خطيرة كالتمييز بين رجل مسالم يصلي في المسجد وآخر إرهابي. واجبك أن تتبنى رواية الرضع الأربعين الذين قطعت حماس رؤوسهم رغم غياب الدليل والصور، لكنك ممنوع من الحديث عن طفل فلسطيني قطع صاروخ إسرائيلي أطرافه، والعالم كله شاهد بدل الصورة مئة. سيقفون بالمرصاد لمن يقول للفرنسيين عكس ما تنتجه المصانع الفكرية الجبارة.
وإجابةً على الفكرة المطروحة في بداية هذا النص عن المجد الذي بلغه هؤلاء والذي من المفروض أنه منحهم كل شيء وحصّنهم من كل أنواع الحاجة، أقول: هذا المجد هو في الحقيقة سجنهم الذي حوَّجهم إلى أي شيء وأي أحد بإمكانه أن يحميهم من الطرد من الجنة التي طُرد منها روجيه غارودي قبل أكثر من ثلاثين سنة.
القمع الفكري المتجذر في فرنسا ترعاه آلة متناسقة: إذا رفضتك دار نشر كبرى ستلفظك بالضرورة الصحف الكبرى. هذه المؤسسات تحتكر صناعة الأمجاد الفكرية ولا تعترف بمن صنع نفسه خارجها.
مرة أخرى: لن أحكم على أحد. أترك القارئ يختار رأيه ويُكوِّن حكمه.

كاتب صحافي جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici