العسكرة العميقة كإعاقة لنمو الفكر والوعي المدني العربي

0
2846
العسكر

بشير عمري
https://22arabi.com

العسكر
 العسكرة العميقة كإعاقة لنمو الفكر والوعي المدني العربي

لا يكاد يتسع الجدل الفكري الحاصل في ساحات نخب الاستنهاض الحضاري والسياسي في عالمنا العربي لينزاح عن ثنائيات البداية المتصلة عضويا بظرفيات التأسيس القطري المعاصر، كالأصالة والمعاصرة، الدين والدولة، العسكري والمدني، ليطل ويطل على عناصر أخرى في التركيب المعقد للواقع الذي صار لا ينتج فكرا ولا يتقبل تنزيل فكر، ونحسب أن أزمة العرب اليوم في الانتقال السياسي والديمقراطي إن يتسبب من هذا الانغلاق الجدلي الثنائي والانخناق في ضائقة سوقه الفكرية الراكدة ما جعل آفاق الخلاص تبعد في منظار الشعوب والمجتمعات بمختلف شرائحها وطبقاتها.

لذا فأي فكر لا يتسع بزاوية رؤيته إلى الفضاءات السحيقة في ظلمة الواقع، فلسوف يكون منتهاه حتما الإخفاق في ملامسة حقيقة الاعتلال الذي نجم عن تظافر أسباب وتراكمات وترسبات مسببات عديدة يتحالف فيها التراثي بالحداثي، المدني بالديني والذي يحكمنا عبر سلط متسلسلة سياسية،ثقافية ونفسية.

من الانزياحات التي صار تحتمها التجربة الوطنية كحل للإفلات من إسار الثنائيات، هي العسكرة ليس بوصفها نقيض لتمدين شكل الدولة، بل بوصفها نقيض للعقلنة التي انبنت عليها، بفضل سلطان الحرية، أسس العملية للتحديث.

كيف عجزنا عن الانتقال من عقل معتقل في ثنائيات جدل كلاسيكي، إلى جدل فكري متصل عضويا وبنيويا بالواقع؟ وهل التمدين ينحصر في حدود شاكلة الدولة دون عقلها؟

الفكر والعسكر طرفا نقيض في معادلة التحديث
يرى الدكتور محمد عمارة أن ثورة 22 يوليو 1952 عملت على عسكرة الفكر وتجريف للعقل المصري وبالتالي ترهلت ديناميكية النخب وإنتاجها الفكري على جميع المستويات وفي كل التيارات.

هكذا نقد (ما فوق سياسي) لأثر أداة سياسية وهي العسكرة التي واكبت أو أنجبت حتى، حالة الوجود الوطني أو القطري في عالمنا العربي، في تشكيل واقعنا المرير، تحيلنا إلى محاولة الانزياح عن النموذج القرائي للأزمة التي نعيشها في الانتقال الشامل في التاريخ، من التراث إلى التحديث من العسكرة إلى التمدن من أسطرة التاريخ إلى موضعته، حالة تقتضي التفاعل الكلي مع هاته العناصر تفضي إلى تفكيك منظومات سلط متراكمة كانت أبرزها سلطة العسكرة بمشروعها الشمولي القائم على تجاوز الرأي التنظيمي والوظيفي للعسكر بوصف العسكر تعبير عن السياسة بخطاب آخر سمته أنه صلب معلب يقطع مع الحرية لزعمه تملكه الحقيقة وطالما تحققت الحقيقة فلم يعد للحرية من جدوى بل أن ستغدو فوضى لتقويض الحقيقة لذا يتوجب سحق كل الأصوات المطالبة هاته الحرية.

من هنا كانت كل ثورات العسكر في عالمنا العربي تمضي عكس مجرى التاريخ الذي يغتسل من سيل ذاته من تراكم أسئلته وتجادلها وتساجُلها بين الماضي والحاضر والمستقبل حتى ليس لأنها احتكرت مشروعها مؤسسات بل لنفاذها إلى وعي وحركة المجتمع حالت دون التمدين العميق الثقافي والنفسي للمواطن وهو ما أركس كل جهد حر في سبيل التمكين التام لقيم المدنية الشاملة من مواطنة والتعددية وقبول التنوع داخل أنساقنا الاجتماعية.

قهر الفكر

مشكل التثوير العسكري للسياسة، أو عسكرة الثورة، هو أنه يجنح في مشمول حركة تكميمه وتأميمه إلى جمع المادة بالعقل وجعل الكل يمضي وفق مشروعه العسكراتي، وليس ثمة أخطر وأكبر من تأميم العقل لأنه يؤدي بالضرورة إلى تعميم الجهل، الذي يقفز على مستوى اللغة، كونه يؤسس للجهل بالتاريخ.

فالعسكر عادة ما يقهر الفكر الحر الذي كما أشرنا لا تتناهى مدارات اشتغاله إلى حدود موسومة أو غير مسومة طالما أنه يتقصد الحقيقة ويتقفا أثرها عبر ديالكتيك مع الواقع، ولكوننا ولجنا حالة من الوجود التاريخي التي تمت خارج وعيينا بانبثاقها وطبيعة تركيبها، صارت الحقيقة الواقع فهما بغير وصف كما يتعمده خطاب ثورة العسكر الحاكم تلزمنا بهاته الحرية الموشومة الموبوءة من سلط عدة في المجتمع أعتاها سلطة العسكر المتحكم في البلد فكرا وعملا بحجة وضع حد لفوضى الحرية الفكرية وما يتداعى عنها.

تخلف النخب الفكر

وعندما نتحدث عن العسكرة السياسية للوعي كظاهرة وسمت التجارب الإنسانية التي سبقتنا، فليس يقتصر إسقاطها باعتبارها نموذجا سلطويا على تلك الدول العربية التي يحكمها العسكر بطريقة مباشر أو غير مباشر، مثل مصر، الجزائر، سوريا والعراق بل إن الإسقاط ليصدق في كل التجارب الوطنية، ذلك لأن التفاتة بسيطة نحو ميزانيات الدول العربية ستخبرك بريادة المخصصات المالية الكبرى للقوات المسلحة على باقي القطاعات كالتعليم، الصحة، الثقافة، الزراعة والصناعة، ما يرسخ القناعة بأن الحالة العسكرية أو العسكراتية تهيمن بمشروعها على كل المجتمع العربي فقط تختلف على مستوى الخطاب من بلد إلى أخر ومن نظام إلى نظام.

كل ذلك أثر بمستويات مختلفة في نشاط النخب الفكرية والثقافية، سوأ على صعيد تشكلها المعرفي ونشاطها الميداني، أو موقفها من المشاريع المجتمعية، فلم تعد النخب العربية فيما بعد النهضة متصدية لإشكالات الحقيقة بل للإشكالات الحرية وفق جدل يشمل كما أشرنا مجالات الثنائيات التي فجرها الفكر الحداثي ويغفل إشكال التمدن وتمدين الوعي بوصفه ظاهرة استشكالية ذاتية متأتية من طبيعة التجربة القطرية المثقلة بأسئلة تمرق عن الوعي العربي.

حلم تمدين الوعي

من هنا يتضح أن التحدي الأكبر الذي صار يواجه العقل العربي المرتهن للسياسة (المُعسكرة) هو تحرير الوعي الخاطئ الذي رسخه خطاب الوطنية القلقة التي نشأت كتعبير وجودي طارئ على الإنسان العربي والقائل بمركزية العسكر ليس في الدولة فحسب بل الحقيقة الوطنية.

فاليوم نرى، لفرط تغول العسكراتية في أعماق الوجود الوطني، أن العسكر لم يقف عند حد عسكرة السلطة ومن ثم السياسة من خلال سطوه على مفاهيم الثورة وممارستها وفق نظمه الميكانيكية القاطعة مع الحرية، ومن ثم تحوله حتى لا نقول انحرافه عن وظيفته الطبيعية الحربية في الحماية للحدود من خطر الغزو الخارجي، بل امتد إلى حقول ووظائف أخرى هي مناط قطاعات أخرى مرتبطة بالخلق والإبداع، كما هو ملاحظ في مصر حيث بات العسكر يسيطرون على أداة الإنتاج الاقتصادي، ما أشاع الفساد وصعب من كل محاولات الانتقال الديمقراطي كونه جعل العسكر عصبة من عصب الصراع الاجتماعي والمالي على الخيرات ومقدرات البلاد، وأخطر ما في ذلك هو أنها عصبة مسلحة تخل بكل موازين التدافع والتنافسية والصراع، فتجرد الشعب من كل خيار حر والنخب من القدرة على ممارسة الفكر الحر، الفكر النقدي الذي من دونه يظل الواقع المرير يعيد إنتاج نفسه.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici