المثقف النقدي العربي العزوف عن حراك الشارع الغياب ومبرر

0
1582


Sep 25, 2022

 https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

أعاز الكثيرون تخلف النخب السياسية العربية عن حراكات الشعوب الثورية، إلى أسباب عدة لا تنفصل في جمها عن غربة المثقف العربي التاريخية التي يحياها حاليا على ضوء سقوط الأيديولوجيات العربية تباعا من يمين إلى يسار، ديني وعلماني، وطني وقومي، في تجارب سياسية وطنية فاشلة بعدما خانها البعد المدني القيادي والوعي النقدي.

لكن ثمة من رأى بأن السبب الأساس في تمنع المثقف العربي عن الانخراط مجددا في السياقات الثورية التغييرية هو التراجع الكبير في الوهج الأيديولوجي للسياسة في العالم بأسره بعد سقوط اليسار وانتهاء الكونية إلى حضن الليبرالية الغربية ورأسماليتها المكتسحة، في تأكيد لمقولة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما وبالتالي نهاية المثقف الحزبي أو الشعبي أو الملتزم وبروز المثقف النقدي ذي الفطام المبكر عن الأمومة الأيديولوجية أو الحزبية، وبالتالي تحرره من أوهام وطوباوية الخطابات المؤسسية في السياسة، فما هو مقام المثقف العربي في ظل هكذا خضم وتقلب مفاهيمي ووظيفي لمفهومه ومفاهيم السياسة والدولة، بل مستجدات الفكر الثوري لما بعد ا الايديولوجيات؟

ظلت الثورة في الوعي العربي متصلة بالعنف التغييري مقتصرة على استهداف الأخر، هذا الأخر الذي قد يتجسد في حوزة الذات نفسها وفق خطاب اللحظة الثورية، إذ يستخون كل غير المنتمي للجماعة الثورية أو الثائرة وبالتالي تنغلق الثورة على نفسها وتبدأ طاحونتها الايديلوجية تنتج خطابها الخاص، وينشط منظومتها الخاصة (الرسمية) لتنعزل الثورة فيما بعد عن المجتمع وتصبح مشكلة تاريخية بعدما كانت الأمل في الحل.

هكذا وعي (عنيف ومغلق) بالثورة أوجس المثقف خيفة من معاودة تجربة الانخراط فيها، فانطوى على نفسه، مستقلا عن المجتمع مستقيلا من السياسة، فاستحال وجوديا في عضويته ووظيفيته إلى متوهم غير ثوري أو مستقل غير حزبي، فهل هذا هو نموذج المثقف النقدي الذي حل محل المثقف الحزبي في مرحلة ما بعد “الأيديولوجيا” الحزبية؟

إذا كان للمفكر أو المثقف مشروع ثورة فهو أول من قد تشمله بالتغيير اللطيف أو العنيف، والتاريخ حافل بهذا تجارب، وفق المقولة الشهيرة “الثورة تأكل أبناءها” لأن الجماعة الثورية التي ستبدأ تتشكل من حول نواة فكرتها (التي انتجها المثقف)  سوف لن تلبث تتقوى وتتغول وتؤوِّل الفكرة على مناح شتى، لتعدم المثقف وتسكته وتحل محله وتصبح هي المفكرة والمدبرة والمسيطرة، من هنا حدث الانشقاق في مفهومية المثقف ووظيفته باعتباره الطليعي في المجتمع بين الحزبي والنقدي، فالثاني يروم الحفاظ على تفرده وفردانيته كأساس لاستقلالية تفكيره وعدم الذوبان في الطاحونة التفكيرية للجماعة، غير أن ما يمكن ملاحظته في الواقع العربي هو أن انحسار دور المثقف والمفكر ليس سببه هاجس السقوط في أسر الجماعة (الحزب) أو الانحراف الثوري الحتمي كما في كل التجارب، وإنما في غياب هذا المثقف أصلا عن الساحة !     .

المثقف النقدي الذي تحرر من النضالية الجماعية أو المجتمعية، هو من يفرغ الوسع الإنتاج الأفكار، والمشهد العربي يخبرنا بحالة تصحر شبه تامة في هذا الإطار، وإلا فأين هي الأفكار التي أثارت ولا ن قول “ثورت” النقاش في المجتمع السياسي العربي؟ كما يحدث في الغرب من خلال مقال فكري سياسي، أو لمؤلف لكاتب أو فليلسوف،  كلما نراه هو إعادة صياغة أو ترجمة المنتج الفكري للغير أو محاولات للتأصيل التراثي الذاتي لبعض التيارات الدينية، وهذا في حد ذاته تأكيد لعدم أو استحالة استقلاليته الفكرية أو الأيديولوجية عدا الحزبية أو الثورية   !

من هنا تتمظهر القطيعة الدائمة بين الفرد المثقف والمجتمع الثائر، بسبب اختلال بنيوي مهول حاصل بين الوظائف والمفاهيم، من أكبر وأمرِّ مظاهرها الاختلال في الحركة بين الطرفين اللذين صارا يمضيان على إيقاع نشاز، فكلما تحرك المجتمع وصاح بالتغيير، انسحب المثقف وسكت بزعم أن دوره النضالي الشعبي هو مجرد شعبوية، وما يليق به هو النقدية المحضة، وكلما سكت المجتمع عن واقعه ولم تحركه آلمه الاجتماعية، تحرك وصاح المثقف معملا أدواته وخطابه النقدي النظري بإفراط.

أما عن الحزبية الطارئة بتعددها من بعد أحادية طويلة، فهي لم تكن حلا لمشكل الثانية (الأحادية) في دولة ما بعد الاستقلال، بل تم اللجوء إليها في غير ما تجربة قطرية عربية بغية التغطية على فشل المشروع “الثوري غير المدني” الأحادي الاستبدادي لا غير، وبالتالي استمرار المنظومات الحاكمة بغطاء ديمقراطي اقتضته التحولات السياسية الكونية الكبرى.

وطالما أن الحزبية هي ذرائعية وليست تأسيسية لعهد سياسي جديد، فإنه مع مرور الوقت صارت السياسة تفرز نمط ثالث من المثقف، من بعد الحزبي “الثوري” والنقدي، هو المثقف الانتهازي الوصولي، الذي لا ينتج فكرا ولا يتقيد بمشروع، بل يكرس الشاكلة الوظائفية لحزبية وتعددية الواجهة القائمة على لعب دور الديمقراطية المزيفة نظير امتيازات خاصة يحصل عليها.

هذا النمط من المثقف شمل كل التيارات والتوجهات، الليبرالي واليساري الإسلامي والوطني، الأمر الذي أفقد النشاط السياسي مصداقيته في المجتمع، وراحت الشعوب تعتقد بقدرتها على الثورة وتحقيق التغيير خارج السياسة وأطرها ومؤسستها ونخبها وكذا مراجعها الفكرية وبالتالي انتقل المجتمع في سبل بلوغه تحقيق حلم التغيير من المبادرة الثورية الفردية الاستعلائية إلى المبادرة الجماعية السطحية.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici