العرب في موجة الانبعاث الوطني والقومي.. سوابق المشروع ومؤشرات الفشل

1
2871


Nov 30, 2023

بشير عمري

إذا كانت مشاريع النهوض  الوطني والانبعاث القومي في التاريخ المعاصر، من اللينينية الستالينية، ثم الهتلرية مرورا بالناصرية ثم وصولا إلى البوتينية والاردوغانية،  قد تباينت في مديات ومستويات نجاحها وفشلها على حد سواء بحسب الوسائل وطرائق انفاذها والنفاد بها تأثيرا إلى عمق الجماهير بوصف هاته الأخيرة بالمرة غاية ووسيلة تلكم المشاريع، فالملاحظ أنها قد انتهت في الآونة الأخيرة إلى نموذج جديد في مصدرية انبثاق فكرتها، بحيث لم تعد مبادرتها (المشاريع) متأتية بالضرورة من نخب سياسية وعسكرية فوقية بل صارت العقول العارفة هي الواضعة للأطر الرئيسة لتلكم المشاريع تربط من خلالها عمل القيادة بأمل الشعوب لتجسد فعليا (العقول) دورها ومكانتها في العمل الوطني باعتبار جهدها ووجودها الحلقة غير القابلة للتعويض أو التفويض فضلا عن التقويض (كما هو حالها عربيا) في عملية الانبعاث القومي والوطني.

كيف حدث الانتقال في مصدرية رسم مشاريع الانبعاث القومي؟ ولماذا استحال انتقال نموذجه إلى العالم العربي؟

على هامش محاضرة له أمام طلبة قسم العلوم السياسية بجامعة طاهري محمد ببشار جنوب الجزائر، رافع الدكتور ياسين سعيدي على مشروع محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، باعتباره نقلة نوعية وواعدة في المسلكية السياسية بالمملكة والمنطقة عموما، كونها أفضت مبدئيا إلى خلخلة المنظومة القديمة وطرائق تفكيرها بعد إذ أبقت البلد واخواته في الخليج العربي في حالة تخلف وتبعية دائمين.

من حيث المبدأ يبدو حديث الدكتور ياسين سعيدي منطقيا، بالنظر إلى طبيعة القرارات التي اتخذت مؤخرا مست في تأثيرها ما بقي لعقود عدة من ثوابت غير قابلة للمس أو الهمس حتى، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا ما الخلفية التي أسس عليها ابن سلمان مشروعه الذي يرنو من خلاله لآفاق 2030؟

ولعل هذا السؤال يجد له مشروعية الانطراح في سببين أولهما، قلة خبرة ولي العهد السياسية مقارنة بمن تواجدوا في سلم العرش الحاكم، وثانيها في غياب الاطار الفكري الذي يضفي بمطلقاته ودوائره التفسيرية طابع التفصيلي والتبريري للمشروع، ذلك لأن كل التجارب التكسيرية لهياكل منظومات الحكم القديمة التي حدثت وفق النموذج الجديد في ثورة التنظيرية للانبعاث القومي والوطني، كما كان الشأن مع اليكسندر دوغين في روسيا ومحمد جواد لاريجاني في إيران، وقبلها “لي وان كيو” في سنغافورة ومحمد مهاتير وأنور إبراهيم في ماليزيا، إنما كانت استجابة لصدى عقل تنظيري عميق من مثقفين امتلكوا الجرأة المحسوبة والرؤية الثاقبة التي لا تستبعد الموضوعية ولكن لا تستعدي “الوهم الإيجابي” في النظر إلى ما ظل معلقا على مشجب الاستحالة في وعي الشعوب.

فروسيا التي نسي الناس أنها ترقد على تراث ثري من أسرار الصراع الحضاري والكوني، باعتبارها كانت الرائدة في ندية الزمرة السوفياتية التاريخية للقوة العظمى اليوم أي الولايات المتحدة الامريكية، يعتقد البعض بأنها تشاكل وتشاكس الغرب فقط بأدوات ردعها العسكرية، والحقيقة هي أن قيامة الدب الروسي من نومته قد وُظفت شتى وسائل العقل البارد لتحقيقها حتى لأنها شملت الأطر المفاهيمية لمعارف وعلوم السياسة، فالروس مثلما أشار كاتبهم السياسي الكبير إيفان تيموفييف يسعون إلى إدخال مفهوم “حضارة الدولة” في التداول الرسمي. قد يكون ظهور هذا المفهوم هو بداية تغيير في الإطار المفاهيمي لتفكير السياسة الخارجية الروسية. علاوة على ذلك، فإن التغييرات هذه تتم مقارنتها بوثائق عقائدية ما بعد الاتحاد السوفيتي، وبالمبادئ التوجيهية الأساسية للفترة السوفيتية” إذا نحن هنا بإزاء عملية بلورة “نظرية سياسية” جديدة في مقارعة النموذج النظري الليبرالي الجديد، بمعنى آخر فإن مشروع الانبعاث كي يمتلك القدرة على الصمود يتوجب أن يغور في أعماق البنى المفاهيمية ولا يظل فوقيا سابحا في فضاء الوهم، وطبعا هذا لا يتأتى إلا من عقل مرجعي يسند سلطة المشروع ومشروع السلطة في الانبعاث القومي والوطني.

على ذات المنوال يمضي المشروع الإيراني الذي رسمه في كتيبه الشهير “نظرية أم القرى” الفيزيائي والمفكر الإيراني الكبير محمد جواد لاريجاني الذي يجعل من خلال رؤيته للمنطقة إيران كقوة قومية أولا وأخيرا محور الأمن والسلام بها عبر ايقاظ وظيفي للأطراف الجسد الشيعي النائمة بجغرافية الشرق الأوسط القديم المضاد لمشروع الشرق الأوسط القديم الأمريكي.

إن هكذا رؤى تنظيرية جامعة لكل أرقام المعادلة الصراعية الصعبة لانبعاث الأمم، غاية في العمق والقصدية الحضارية هي ما ينقص المبادرة التغييرية العربية كي تستوي على عودها بموضوعية ومصداقية وتحوز لها النجاح والديمومة، فالسياسي العربي بطبعه مستنكف عن تفعيل العقل يرى نفسه مركزا للوجود الوطني، وكل خيال غير خياله أو مشاركا أو مشاكسا له سيبقى مقموعا وممنوعا في عملية تمثُّل الحاضر وتأمُّل الغدـ

وعلى ضوء كل تقدم، نعتقد بأن التاريخ لا يعدم تجارب فاشلة في التفرد بالقرار الانبعاثي الوطني والقومي الحضاري، فالهتلرية التي استطاعت أن تستجمع لها شتات الضمير الأري والناصرية التي سحرت أسماع الامة بخطابها وخططها في أجندتها التي ظلت وهمية حتى لو كتب عنها تسيسا وليس تأسيسا زكي نجيب محمود (فلسفة الثورة) لم تفلحا في الرسوخ في معترك الصراع والتحدي الدوليين لافتقارهما للسند المرجعي الفكري العميق الذي منه تُستلهم السياسات وترسم الخطوات باتجاه إعادة بناء ما حطمته عواصف التاريخ من جسد الأمة.

واليوم لا ندري مثلا إن كان بن سلمان واخوانه ممن صاحبوه في التطبيع طمعا في مقابل لم ينله ممن سَلَفهم بالهرولة نحو التطبيع، أي التمكين من بعض من فرص تحقيق توازن القوى بالمنطقة – يعلم – بأن بإسرائيل 35 مركزا علميا لدراسة العالم العربي وحده من طنجة إلى المنامة، بحسب ما أورده الباحث التونسي الكبير الدكتور فوزي البدوي، أستاذ الدراسات اليهودية ورئيس قسم مقارنة الأديان بكليّة الآداب والفنون والإنسانيات في تونس، في حين لا يتعدى عدد المراكز المتخصصة في الدراسات “اليهودية” في العالم العربي كله ثلاثة (03) ! أحدها اضمحل وانحل، ذاك الذي كان يحمل اسم مركز أبحاث فلسطين ومقره ببيروت، وبقي مركز مدار برام الله وهو مؤسسة بحثية خاصة، ومركز الزيتونة بغزة، هي إذن ثغرة معرفية، علمية واستراتيجية كبيرة من عديد الحلات المماثلة تضع كل المخططات والخطوات باتجاه التغيير والتطوير العربي محل شك حتى لا نتعجل ونضع نجاحها محل استحالة!!

كاتب  جزائري

1 COMMENTAIRE

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici