!أحداث 05 أكتوبر 88 أو يوم انكسر الصنم وبقي النظام

0
123


بشير عمري

ها هي ذي ذكرى أخرى من جملة محطات الكفاح التاريخي للمجتمع الجزائري باتجاه التحرر والانعتاق، واستعادة سيادته على مصيره، ذكرى انتفاضة أكتوبر 1988 التي تمرد من خلالها الشعب على رداءة مشروع دولة المصادرة للتاريخ والاستقلال والسيادة، يوم خرج الناس صادحين صائحين بنفاذ صبر الأجيال على منظومة تقود البلد حقبة بعد أخرى نحو المجهول، فأسقطوا في تلك الانتفاضة التي سبقت سقوط نظم الاستبداد في المعسكر الاشتراكي الأوروبي، صنم الحزب الواحد لكن تبين أن هذا الصنم كانت به روح لا تزال كالشبح تذبح كل مساعي التغيير مستعملة ومستغلة في ذلك أخفاقات الوعي لدى الشعب والنخب بأبجديات التغيير وأدوات العبور إليه وأهما سؤال الأزمة.

ما هي طبيعة القطائع التي يكون قد عبر عنها أكتوبر 1988 في تاريخ الجزائر المستقلة؟ هل عبر عن نهاية مستوى من خطاب الوطنية الذي تحمل فشل الدولة وصار يسئ للوطنية وللدولة معا؟ أم عبر عن نهاية مشروع دولة استقامت خارج الارادة والاجماع الوطني عشية الاستقلال وفق منطق المصادرة الذي تحدث عنه الزعيم فرحات عباس في كتابه الشهير الذي احتمل ذات العنوان (الاستقلال المصادر)؟

خارج النسق النظري لمفهوم المؤامرة، ثمة إرادة خفية تسعى بلا هوادة من الداخل على أن تظل الجزائر تخلف مواعيدها مع التاريخ، وتبقى بالتالي رازحة ومترنحة في مربع أزمتها الأولى التي فجرها انقلاب سنة 1962 بتحييد السياسي (الشرعي) واستلام قوات جيش الحدود الحكم، فمن يومها شرع مشروع “البناء الجاهز” للدولة والانسان على كل المستويات يقوم مشوها مغشوشا على أرضية هشة كون طبيعة البناء الجهاز غير معبرة عن الذات فهو في وظيفته ومداعيه حل وقتي لأزمة محدودة في الزمان والمكان، ولكنه (البناء الجاهز) الذي شمل كل مستويات الانسان بما في ذلك وعيه وحلمه أخذ طابع الديمومة مخترقا منطق طبيعيته وطبيعة التاريخ والسياسة، فتحول بذلك من أداة حل وقتي إلى أداة أزمة دائمة تقهر أجيال المجتمع في كل مساعيهم للاقلاع والنهوض التنموي الشامل .

ربما حسب أصحاب انقلاب 62 أنهم مع توالي سنوات قبضتهم قد استراحوا بمجرد أنهم أزاحوا نهائيا من على طريقهم صوت المعارضين الأوائل ممن رفضوا منطق المصادرة والعصف العنيف بمنجز ثورة 1954، وبذلك قد استتب لهم الحكم إلى الأبد متغافلين أن منطق المعارضة يتواصل جياليا والأصعب منه أن يتطور في الخطاب حين يتدثر عبر تراكمه ف الزمن أحيانا بالتفسيرات الأيديولوجية والتأويلات ذات الأساس الميتافيزيقي في قراءة تجارب التاريخ حتى، وهذا ما يعمق الشروخ ويخلق تكتلات ليست ذات صبغة أو وظيفة سياسية فحسب بل طائفية أحيانا!

لقد غفل حقا عن قادة حركة مصادرة التاريخ الاستقلال أن سؤال الشرعية سيظل متقدا في الذاكرة الوطنية التي مهما تدخلت فيها سلط الاقهر،لتزوير، الرقابة والتوجيه، فلن يكبح ذلك جموح  سؤال الحقيقية الوطنية لدى الناشئة من تفتيشها (الذاكرة) ومحاولة إعادة تركيبها مع أول محنة يقف قبالتها الوعي، ولما أن جاءت أزمة النفط كشرارة أولى وعلامة زمنية على سقوط مشروع المصادرة، تفجرت انتفاضة أكتوبر 1988 في الشوارع الأحياء الشعبية الكبرى معبرة عن غضبها من مسلكية دولة الاستقلال الخاطئة، مطالبة بالتغيير الكامل والشامل بما يتيح للدولة والمجتمع من أن يفصحان عن مقدراتهما الكبرى.

وليس هنا يهم معرفة ما إذا كان قد فشل مشروع دولة الاستقلال ذاتيا أم تم إفشاله، فالفاعل السياسي والسلطوي كان وحدا أحاديا، بل ما يهم معرفته هو ما الذي هدفت إليه انتفاضة أكتوبر وغضبها التاريخي، إذ واضح أن رسالته الأولى كانت تستهدف تصحيح أخفاق مشروع الانقلاب الأول الذي زعم قادته أنهم انقذوا به الثورة الوطن من خراب وحرب أهلية خطيرة، قبل أن يعودالبينقضوا على الحكم بدعوى تصحيح الثورة سنة 1965، فشباب أكتوبر الذين هاجموا يومها مقرات الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني) إنما عبروا بذلك عن رفضهم النهائي لاستمرار تلك المنظومة التي لم تتقن شيئا أكثر من اتقانها للفشل على كامل صعد البناء التنموي .

لكن هل أفلح أكتوبر في مهمته؟ هوذا السؤال المر الذي لا يستسيغ الكثيرون ممن شاركوا في انتفاضة أكتوبر 88 وتأملوا الخير الكثير من ورائها، طرحه فضلا عن الاجابة عنه.

وبذات القطع الذي جزمنا به بفشل مبادرة المغامرين المصادرين للتاريخ والدولة عقب الاستقلال، يمكننا بلا أدنى تردد الاقرار بفشل انتفاضة أكتوبر في بلوغ هدفه وتصحيح مسار دولة الاستقلال، لأسباب عديدة لها كلها علاقتها بالتاريخ، لكن أهم سبب هو أن نشطاء المشهد الجديد وقتها جنحوا كلية لتقيدم الاجابات حول الازمة بدل السؤال، وتخيل كل منهم أنه مهدي فترة ما بعد الأحادية وقد خرج من سرداب السرية إلى العلنية ليخلص الشعب من همومه ولآلمه ويصحح الماضي والحاضر بل والمستقبل أيضا! لتتصارع الحقائق والاجابات الجاهزة، فاستغلتها المنظومة عبر إدخال الكل في حرب ضروس روضت وأدبت فيه الجميع بما في ذلك المجتمع الذي انتفض في اكتوبر ضدها، ليكفر بعدها الناس بأكتوبر وما جاء به أكتوبر مثلما كفروا قبلها  بالتاريخ الوطني في دفاتر وكتب المدارس الأحادية.

لكن المنظومة التي أفشلت مشروع ثورة 1954 ثم مشروع أكتوبر 1988، وبحكم كونها لا تارخانية في أسساها ولا تقوم على منطق لا معرفي ولا عقلاني فضلا عن المنطق الشرعي، عادت لتسقط مرة أخرى بوحي الفشل في حل الفساد وتعيد أثارة غضب الشعب في ثورة عارمة عامرة لم يشهد تاريخ الجزائر السياسي لها مثيلا، أطاحت من خلالها بسلطة أحد من صنعوا المنظومة سنة 1962 وهو عبد العزيز بوتفليقة، الأمر الذي، لو يعلم الذين اهتموا دوما بالحالة الجزائرية،  له أكثر من دلالة تاريخية وسياسية تخترق أستار السياسة وتتسلق درجات الزمن لتؤكد بمنطق الحاضر (2019) خطأ مغامرة الماضي (1962) الذي كان مختزنا ومختزلا في تجربة ومشروع دولة بوتفليقة الفاسدة البائدة!

والخشية كل الخشية اليوم هو أن يفلت من الوعي الحراكي بالأخص لذا طيلعته وقادة رمزية خطابه التاريخية التي بات يتسند عليها، سؤال الأزمة وينبري الكل يغني باجاباته الطوباوية وينصب نفسه مركزا للثورة الحراكية، كما حدث مع رعيل انتفاضة أكتوبر 1988 وهو ما سيفقد هاته الثورة أهم مطلب بات تحقيقه صمام الأمان والمنقذ من ضلال الماضي وهو التأسيس الجمهوري الجديد على قاعدة توافق دستوري وطني يحقق أعلى قدر من الاجماع في المجتمع الجزائري، ويبث الروح في بيان أول نوفمبر الذي تداعت له كل أصوات الحركة الوطنية قبل أن يجرفهم زمن المصادرة المشأؤوم.

وشبح الاخفاق الذي صار يلوح بسبب الانحرافات والانشقاقات التي اعتملت في جسد الحراك وعقله، سيكون ثمنه كارثيا لأن ذلك سيضع المجتمع على فراغ تام بهوته السحيقة الساحقة، لكون النظام مهما كانت حالة تأزمه في الماضي وطغيانه كان يملأ هذا الفراغ ولو برداءته، أما اليوم وقد داخل (النظام) بحكم العمر ونضوب الخيال والفكر دوامة هوية واللا مشروع ستقودانه للفناء، سيكون الخطر مضاعفا إذا لم تملأ الثورة الحراكية هذا الفراغ الذي سيتمظهر في مقصورة قيادة شاغرة لقطار المجتمع وهو يمضي بسرعة جنونية نحو المنحدر!

بشير عمري

كاتب صحفي  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici