أحداث أكتوبر 88 وجموح سؤال الهامش في السياسة بالجزائر

0
1900

Oct 05, 2023


بشير عمري

https://www.raialyoum.com/

وأنا أجول في تضاريس الوعي بالمسألة الجزائرية بالفضاء الافتراضي، سعيا مني لمعرفة مدى تطور الرؤية من عدمه بشأن كبرى المعضلات السياسية بمناسبة ذكرى أحداث 05 أكتوبر 1988 اعتراني شعور بالحسرة مما آل إليه العقل السياسي الجزائري (إن كان له وجود) الذي لا يفتأ يتقدم في تخلفه عما بناه وتبناه في تلك الفترة الزمنية المثيرة للجدل والدجل معا، إذ لا يزال في سياق تأسيساته لثقافة الحركة والحراك يرتجع بوجع إلى المحطات التاريخية بكثير من التجريد والتجرد قاتلين بفراغهما من جوهر ما يستلزم من وعي وسلوك يقفز بهما على واقعه، حيث لم يزله عقل “حدثي” يقف عند عتبة السؤال الاستنطاقي الفضولي لما جرى عوض التركيز على محاولة فهم ما يجري، وذلك من خلال الغوص في ما وراء الحدث وما تداعى عنه من قضايا شكلت وجه واقعه الملغز المقزز تحت ركام أزماته.

فهو عقل إذن، لا يزال جامحا في صحاريه وبوادي نشأته الأولى بلا ترويض في مسارات ومسارب التاريخ جانح إلى الاقاصيص والاحداث السياسية مرتبطا ومربوطا بها بدلا من السعي للتوغل في عمق الظواهر لتفكيك بُناها واستيعاب مفاهيمها.

وهكذا مثلما ظل سؤال من اغتال عبان الرمضان؟ ومن المستفيد من ذلك؟ جاريا على ألسنة بعض خطباء السياسة وأقلام كتبة التاريخ المعارض، دون أن يمتد السؤال إلى مشروع الرجل وطبيعة ما قدمه من فكر هدد به من سيستهدفون لاحقا مجرى الثورة بالتحويل في محطة الاستقلال وبالتالي اغتيال حلم البناء الجمهوري الحقيقي، ما جرد الملف (الاغتيال) من بعده التاريخي وابقاه في سياق “الحادثة الأليمة” ومنطق التصفيات الحسابية التصارعية الخاصة، مثل ذلك ظل الأمر أيضا مع سؤال الانقلابات داخل المنظومة محصورا في لعبته الضيقة، والأمر ذاته حصل مع الهزات والأزمات والانتفاضات التي رافقت تجربة الاستقلال ومشروع دولته المترنح على الدوام وتوالي السنون والأعوام.

فأحداث 05 أكتوبر سواء أكانت وليدة إرادة وفعل من داخل السرايا أو جاءت عفوية نتيجة الاحتقان الشعبي المتزايد بفعل فشل مشروع دولة الاستقلال، ستظل (الاحداث) محطة للسؤال الأبدي، هل تحقق للجزائر عقل سياسي يحررها من مزالق وكبوات ذاتها مثلما سبق وحصلت على عقل ثوري حررها من الاستعمار أم لا؟

هنا تبرز الرزيئة الكبرى وضياع الضمير والمصير الوطني على اعتبار أن الاستثمار في التجربة الوطنية بشتى أدوات الاستثمار المعرفية والتنظيمية حتى هاته الساعة لا يزال بمثابة الفريضة الغائبة في عقائد السياسة وقناعات السياسيين بالجزائر، الطارئ منهم والمستجد، والسبب عضويٌ وواضح وهو أن الفعل يسبق العقل أي التفكير في الإنتاج السياسي وربما هذا ما تفطنت له السلطة وشجعته مع توالي سنوات ما عُرف بالتعددية إلى أن تمكنت، بعدما أفلحت في الامساك بزمام غرائز قادة الأحزاب ونخب السياسة، من إعقام هاته التعددية وافراغها من كل محتوى فانحسر التغيير في الشكل ولم ينفد إلى الاعماق لتتكرس ما ستعرف لاحقا بديمقراطية الواجهة التي هي في جوهر معناها وشكل مبانها الأحادية المتعددة !

إن أكبر ما قد يصيب العمل الساسي في تجربة أية أمة من الأمم هو أن يتعاظم ذلك العمى الذي يطال عقلها الناظر في وقعها فينكمش السؤال الكبير إلى حدود “من فعل هذا؟” دون التمدد به إلى عناصر استفهامية أخرى، لماذا؟ وما أثر ذلك على الوضعين القائم والقادم للأمة.

الأوروبيون، تجربتهم التغييرية، نجدهم قد حافظوا حتى على طقوس السياسة الأولى التي نجمت عن ثورات التعيير الكبرى التي انتشلتهم من غطرسة وطغيان ممالكهم السابقة، فاستعانوا بالرمز على النسيان لتظل جحافل الأجيال على تواصل مع لحظة التغيير التاريخي الذي حصل بكل عنفوانها، فمثلا باب قصر الحكومة في بريطانيا يغلق بقوة من خلف الملك وهو يغادر قاعة اجتماع مجلس الوزراء بعد أن يلقي خطاب تولية رئاسة الوزراء عقب نتائج كل انتخابات برلمانية، تماما مثلما حدث أول مرة لما انتصرت الثورة البريطانية على القصر وجردته من الحكم دون الملك.

أيضا لم يكتفي هؤلاء الأوروبيين في شرق القارة في مسار احتوائهم للأحادية من بعد دحرها شعبيا أو شعبويا، بالتساؤل حول من أسهم في وصولها لحكم بلدانهم، بل توغلوا في عمق المعارف الفلسفية النفسية والتاريخية للظاهرة، وصاغوها في مواقف قانونية وسياسية شكلت مع توالي العهود والعقود قطيعة مع حالة من التفكير الدوغمائي الشوفيني الفاشي، بل وصارت أيضا في منظومات مجتمعاتهم الفكرية والسياسية ذرعا واقيا من أي محاولة قيام تجربة مماثلة على الأرض الأوروبية، فاجتث العقل الديكتاوري الخبيث وجففت منابعه واستحالت فرص العودة من خلاله إلى القهقرى.

 في حين لا يزال سائدا لدينا بالمنطقة كلها ومتسيدا الفعل والانفعال السياسيين على حسب التفكير والتدبير على نطاقي الشعب والنخب على حد سواء، الأمر الذي يحول دون تأسيس وتكريس منطق الذاكرة المتألمة المستريبة دوما من تداعيات ما تحمل من صور وتجارب قاسية وقاسمة للمصير الوطني، قلق واسترابة يظلان أو هكذا يفترض أن يكونا دوما، مؤشرين دائمين مُقظين للضمير الوطني مذكرين ومحذرين من مغبة النسيان والعودة إلى مربع الأزمة الأولى.

 من هنا يمكننا أن نستنتج بأن سقوط كل مساعي التغيير التي سبقت أو تلت أحداث أكتوبر 1988 بالجزائر، إنما هي عدم القدرة على تمثُّل واستيعاب شروط فهم الأحداث في انتكاسة منهجية للعقل السياسي في انتاج السؤال المتوجب حول ما حدث وما سيتداعى عنه كي تتم معاودة صياغة المفاهيم من أصولها وينشأ وعي جديد قاطع مع الماضي وليس قابعا في حدوده خاضعا لمحدداته في السياسة والعمل الوطني، وطالما أن الفكر باق مضمر والفعل سابق له في حقل ما يعرف بالنشاط السياسي، الذي يُرى فيه المتعلمون للسياسة والمعلمون لها والمتعاملون المتلاعبون بها في سوقها مستريحين في كهوفهم العالية بما حازوه من متاع نظير التواطؤ والسكوت ينظرون للواقع دون أن يبصروا ويستبصروا فتحسبهم بذلك أيقاظا وهم رقود، طالما أن الحال كذلك فلا مؤشر قريب على الخلاص ولا ينبئك مثل خبير !    

كاتب جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici